تربية عبد القادر الجنابي

$ 8

كانت منطقة رأس القرية، في بغداد، التي ولدت فيها، أشبه ببوتقة يختلط فيها المسلم بالمسيحي، وهذا باليهودي، وحابل الجميع يختلط بنابل الصابئة، التركمان، الآشوريين، الأكراد، والرسل الثلاثة، بالشحاذين والعيارين الذين كانوا يملأون بغداد. كنا نشعر أن الله موجود في صدر البيت وكأنه برج بابل يمتد من غرفة النوم مارّاً بكل البيوت وبنداءات البقالة والباعة المتجولين، حتى ينتهي عند المقهى الواقع في رأس الشارع حيث البلبلة وخشيش النرد وصياح النادل وملاسنات لاعبي الدومينو والطاولة، والمقهى حيث نجلس حتى مآخير الليل نشاهد فيلماً أميركياً على شاشة التلفزيون، لنضاعف من طاقة الحلم. مسلم أنا؟ هذا مستحيل. ألم أطرد من "الكتّاب" الذي أدخلت إليه قسراً بعد شهر واحد لأني لم أستطع أن أحفظ آية واحدة عن ظهر قلب؟ وكانت حمى التيفوئيد التي أصابتني ذات حدين، إذ بقدر ما أودت ببعض جمالي، نظفت ذاكرتي من النزوع البافلوفي الكامن في ذاكرة كل انسان. لم تبق لي سوى ذاكرة بصرية استخلاصية لا تختزن إلا مفردات عصيانية ومشاهد إثارة. وربما بفضل هذه الحمى أدركت أن الكلمات المحفوظة عن غيب قلب إن هي إلا بمثابة شُرَط يحدون من وثبة الفكر عند الكتابة وحتى عند الحديث. ولكن هذا لا يعني أنه يجب أن أعصر ذاكرتي لكي أتذكر لحظة، ذاك المساء مثلاً، في المعهد الفرنسي، حيث جلست جانب فتاة يهودية كانت تتحدث كلاماً مزمورياً لن أنساه، والمعلم الفرنسي يخط على السبورة السوداء بطبشور وردي اللون" Je. كان مساء جميلاً جمال البطيخ الأحمر.

Releases Date 2020
Category ببليوغرافيا ومذكرات / أدباء
Edition 1
Cover Type Normal
ISBN 978-9-922607-99-3
#Pages 172
Available Volumes 1
Size 21*14