ثمة معرفة مقبولة اليوم بأغلب الفرق السياسية والكلامية – العقدية في تاريخ الإسلام المبكر. لم يعد هناك الكثير من الغموض، مثلاً، يحيط باستقراء وتتبع الدوافع التي أدت إلى ولادة الخوارج، وجماعاتهم المختلفة، والمقولات التي تبنتها هذه الجماعات. ولم يعد من العسير التعرف إلى جذور القدرية والمعتزلة والمرجئة، وإلى أبرز علمائهم وآرائهم. كما وضعت خلال العقود القليلة الماضية سلسلة من الأعمال التي اختصت بدراسة طوائف المسلمين الشيعة، ولا سيما تلك التي استطاعت البقاء عبر القرون، بما في ذلك الطائفة الزيدية، والاثنا عشرية، والإسماعيلية. بيد أن الغموض لمّا يزل يحيط بنشأة أهل السنة والجماعة وتاريخهم، وهم سواد المسلمين الأعظم، أو تيار الإسلام الرئيس وتعبيره الأهم والأكبر.
فمن هم أولئك الذين عُرِفوا بداية باسم أهل السنة والجماعة؟ وفي أي سياق ولد تعريفهم بالسنة والجماعة؟ أي موقف اتخذه أوائلهم من توجهات الانشقاق والخروج، ومن الفرق والجماعات العقدية والسياسية الإسلامية المبكرة؟ كيف اتسعت صفوفهم وتحقق صعودهم المطرد إلى أن أصبحوا تيار الإسلام العام، أو سواد المسلمين الأعظم، كما سمّاهم الفقهاء الحنفية السنة في بلاد ما وراء النهر؟ لماذا احتضن أهل السنة مستويات من التوتر بين أجنحتهم المختلفة؟ ما الخلفية العقدية والفقهية والسياسية لأولئك الذين نطقوا باسمهم خلال القرون الأولى من تاريخ الإسلام، فقهاء كانوا أو متكلمين أو محدثين؟ ما طبيعة علاقات أهل السنة بمؤسسة الخلافة، وبالسلطات الحاكمة، وكيف تطورت هذه العلاقات خلال قرون الإسلام الأولى؟ وكيف ولدت تصورات أهل السنة الرئيسة للدين وأصوله، وما السياقات التي تبلورت فيها هذه التصورات؟
يعالج هذا العمل تاريخ أهل السنة والجماعة، من أواخر القرن الأول الهجري “أوائل الثامن الميلادي” وحتى منتصف القرن الخامس الهجري “الحادي عشر الميلادي” عبر دراسة أصحاب الحديث والمتكلمين والفقهاء والمتصوفة، وتتبع تقلبات العلاقة بين السلطة السياسية وأهل السنة.
إن محاولة كتابة تاريخ أهل السنة والجماعة غير ممكنة من دون اللجوء إلى مصادر تاريخ الإسلام المبكر، ونصوص علمائه وفقهائه وأدبائه، ومقولات فرقه وجماعاته، وسير رجاله، وسياسات دوله. بيد أن هذا الكتاب لم يكن ممكناً كذلك من دون الرجوع إلى أعمال الزملاء والأساتذة، شيوخ دراسات الإسلام المبكر، الذين مهدوا الطريق لفهم نشأة أهل السنة والجماعة وتطورهم. مثل كتابات وأبحاث جوزف فان إس، مونتغمري وات، جورج مقدسي، رضوان السيد، وائل حلاق، كريستوفر ميلتشرت، مارشال هودجسون، أحمد كارا مصطفى، ألكسندر كينيش، جوناثان بيركي، م. م. برافمان، هيو كينيدي، وآخرين كثر، تحفل بأسمائهم وعناوين أبحاثهم هوامش فصول هذا الكتاب ومصادره.